الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ماذا عن المسيح اللّه؟فإذا جاء إلى الناس من يقول لهم: إن «يسوع» هذا الذي رأيتموه أو سمعتم أخباره، والذي عرفتم من أمره أنه لم يكن إلا بشرا سويا.. في هيأته وملامحه، وفى طعامه وشرابه، ويقظته ونومه، وفرحه وحزنه، ورضاه، وسخطه، وفى كل ما تعرفون من شئونكم، وما تتقلّبون فيه من حياتكم- «يسوع» هذا، هو اللّه رب العالمين! عاش تلك الفترة المحدودة من الزمان وفى هذا الوضع المحدود من المكان في مسلاخ الإنسان «يسوع» وفى جسده..ثم ترك هذا الجلد، وزايل ذلك الجسد، وارتفع إلى ملكوته- نقول إذا جاء أحد يقول للناس هذا القول، في شأن المسيح، أو في أي إنسان غيره من الناس على طول الإنسانية وعرضها، فبأى آذان يستمع الناس إلى هذا القول، وبأى عقول يلقونه؟ولنذكر أننا بمعزل عن مقولات الكتب المقدسة في أمر «المسيح» وأننا إنما نواجه «المسيح» من خارج الدائرة العقيدية، وأننا إنما ننظر إليه كظاهرة إنسانية، كان لها في حياة الناس- ولا يزال- دور كبير، دارت وتدور حوله شئون لهم وشئون!..ونعيد سؤالنا مرة أخرى: بأى آذان يستمع الناس إلى هذا القول الذي يقال في المسيح الإله، وبأى عقول يلقونه؟ولا نتكلّف لهذا السؤال جوابا، فالجواب حاضر، نأخذه من فم التاريخ الذي يحدّث عن أعداد كثيرة من الناس قد لبسوا أثواب الآلهة، أو ألبسوا هذه الأثواب.. ويحدث التاريخ- قبل المسيح وبعده- أن الناس انخدعوا لهذه الآلهة، وآمنوا بها، وأنزلوها من قلوبهم وعقولهم منزلة الإله الذي يؤمن به المؤمنون باللّه! ففى مصر، والهند، وفارس، وفى بلاد اليونان والرومان، دان الناس أحقابا طويلة للالهة البشرية.. من فراعنة، وقياصرة وأباطرة، وهراقلة، وعبدوهم عبادة المؤمنين للّه رب العالمين.. ولا زالت بقايا هذه الظاهرة باقية ممتدة في القرن العشرين إلى الحرب العالمية الثانية، حيث كان امبراطور اليابان «الإله» المعبود من دون اللّه، في أمة بلغت من الحضارة والمدنية حظّا كاد يجعلها على رأس العالم المتحضر في هذا العصر! وفى التاريخ الإسلامى ادّعى المدعون ألوهية «علىّ» رضى اللّه.. وكادت تكون فتنة، لولا أن صدمتها العقيدة الإسلامية صدمة قاتلة، بيد «علىّ» نفسه، الذي أرادوا أن يلبسوه ثوب الإله.!ويحدث التاريخ الإسلامى أيضا أن «المقنّع» الخراسانى،- واسمه عطاء- كان صاحب فرقة من فرق الشيعة، وكان مشعوذا، قد بلغ به الأمر أن ادعى الألوهية لنفسه، وكان لا يسفر عن وجهه، وقد اصطنع لذلك وجها من ذهب، تقنع به، فسمى المقنع.. وكانت له شعوذات خدع بها الأغرار من الناس، فتبعه خلق كثير، مما وراء النهر، وآمنوا بألوهيته، وكادت تكون فتنة.«ولما اشتهر أمره ثاروا عليه، وقصدوه الناس في قلعته التي اعتصم بها، فلما أيقن بالهلاك جمع نساءه وسقاهن سما، فمتن منه، ثم تناول شربة من ذلك السم فمات أيضا، وذلك في سنة ثلاث وستين ومئة هجرية».ويحدّث التاريخ الإسلامى كذلك عن بعض الفرق المنحرفة من الشيعة، وعن تأليههم للخليفة الحاكم بأمر اللّه، الذي لا زالت بقايا هذه الفرقة المارقة تتعبد له، في جهات منعزلة من بلاد الشام! وليس ببعيد خبر «سليمان المرشد» الذي ظهر في بلاد الشام منذ سنوات وادّعى الألوهية، ووجد في الناس من يستجيب له ويؤمن به! وتستند دعوى الألوهية لإنسان من الناس على قوة غيبية احتوت هذا الإنسان الإلهى، أو احتواها هو.. وبهذه القوة الغيبيّة المقدسة فيه، صار فوق مستوى الناس، ونزل منازل الآلهة! وقد كان الناس قبل عصر العلم التجربي، يفتحون آذانهم وعقولهم وقلوبهم للقوى الغيبية هذه، ويتشوّفون إليها، فيما وراء المادة، وكانت حياتهم موصوله بها، مشدودة إليها.. فإذا جاءهم من يحمل إليهم- إن صدقا وإن كذبا- خبرا من تلقائها، أو حديثا من عندها، وجد من يصغى إليه، ويلهث جريّا وراءه! وبهذا الشعور خلق الفنانون الأساطير، ونسجوا الخرافات، التي كانت المورد الذي تتزاحم عليه الإنسانية، وتروى منه أشواقها ومواجدها، وتغذّى به آمالها وأحلامها..وإذ طلع عصر العلم التجريبى على الناس واستقامت العقول على منطق التجربة، وحكم الواقع المادىّ- لم يعد للقوى الغيبية هذا السلطان المتسلط على العقول والقلوب، ولم يعد في الناس من تستهويه هذه القوى، أو تحمله على الوقوف طويلا عندها.. فإن يكن للناس مع هذه القوى وقفة في هذا العصر، فهى وقفة اللاهي العابث، الذي يلتمس التخفف من ضغوط المادة، وثقل الواقع..ثم لا يلبث أن يأخذ طريقه إلى عالم المادة والواقع، الذي يتقلب فيه، ويتعامل معه! ولهذا، فإن أي لباس يلبسه الإنسان اليوم غير جلده البشرىّ، وثوبه الإنسانى، لا يمكن أن يحجب أعين الناس عن حقيقته، أو أن يخيّل إليهم منه أنه غير إنسان!! فقد يلبس الناس على المسارح جلود الحيوانات، وأثواب الشياطين، والجن والآلهة.. ثم هم مع هذا في أعين المتفرجين أناس كسائر الناس.. وأن هذه الأثواب، وتلك الأصباغ أشياء مستعارة.. لا تغير ولا تبدّل من الحقيقة الواقعة شيئا.ولا يخرج الحال بأولئك الذين يدّعون لأنفسهم، أو يدّعى لهم أنهم من طينة غير طينة الناس، ومن جلود غير جلود الناس- لا يخرج بهم الحال عن تلك الصّور المتغايرة التي يلبسها الممثلون والمهرجون! إن الناس قد استقلّوا اليوم بعالمهم الأرضى، وأجلوا عنه كل قوى غيبية كانت تعيش مع أسلافهم فيه، وتتحكم في مصائرهم، وتبدل من أحوالهم!وأنهم إذا شاقهم لقاء تلك القوى الغيبية أطلعوها بقدر، للتسلية والترفيه، ثم أرسلوها لتعود من حيث جاءت! والسؤال هنا هو: ترى لو جاء «اللّه» إلى الناس اليوم في صورة إنسان من الناس، يعرفون وجهه، وليدا وطفلا، وصبيا، وشابا، وكهلا.. ثم دعاهم هو، أو دعاهم داع غيره إلى الإيمان به إلها، والتعبد له ربا- أكان يجد من الناس أذنا صاغية، وقلبا واعيا، لتلك الدعوة؟ ربما كان بعض الأغرار، وأصحاب الأهواء والبدع، ممن تستهويهم المواقف الشاذة، وتروقهم الانحرافات والشطحات- ربما كان بعض هؤلاء وأولئك يلتفتون إلى هذه الدعوة، ويستجيبون لها.. ولكنهم مهما بلغ عددهم، يظلون في عزلة عقلية واجتماعية عن المجتمع الإنسانى العصرى.. لا ينظر إليهم الناس إلا نظره الشذاذ الخارجين على الجماعة الإنسانية! ينكرهم الناس أينما التقوا بهم.. ثم لا يلبث أمرهم أن ينتهى إلى ما ينتهى إليه كل أمر لا يقوم اليوم على واقع التجربة، ولا يستند إلى برهانها! والصورة التي ظهر بها «يسوع» المسيح وإن تشابهت مع هذا التصور في بعض ملامحه، إلا أنها تخالفه من وجهين:(الوجه الأول) هو أن «المسيح» ظهر في عصر غير هذا العصر.. في عصر كانت فيه صور الآلهة البشرية تعيش في تفكير الناس، وفى أحلامهم، لا ينكرونها إذا هي التقت بهم، وتحدثت إليهم.. فلطالما التقى آباؤهم بالآلهة، وتحدثوا إليهم وتعبّدوا لهم، ولا تزال وجوه هذه الآلهة وأشباحها تطلّ عليهم من قريب! (و الوجه الثاني) هو أن ألوهية المسيح لم تعلن إلى الناس وهو حىّ قائم فيهم، حتى كان يمكنهم أن يعيدوا النظر إليه، ويملئوا عيونهم منه، وهم يلتقون به على تلك الصفة.. وإنما كان ذلك بعد أن انتهي المسيح تلك النهاية المعروفة..فقيل للناس بعد هذا: إنه بعد أن صلب عاد إلى الحياة.. وصعد بعد أربعين يوما إلى ملكوته السماوي الذي نزل منه! وهنا تكثر الأحاديث عن «المسيح» وعن شخصيته! إنه ليس مجرد إنسان! وشاهد ذلك معجزاته الكثيرة التي عرفها الناس منه في حياته..وإنه ابن اللّه!.. وشاهد هذا أنه ولد من عذراء! فليس «يوسف النجار» أباه، وإنما هو زوج أمه! وإنه هو اللّه ذاته! شاهد ذلك أنه أمات نفسه ثم أحياها.. واللّه وحده هو الذي يحيى ويميت، ويميت ويحيى! «يخرج الحىّ من الميت، ويخرج الميت من الحىّ»! وهكذا استدبر الناس حياة «المسيح» إلها، بعد أن استقبلوا حياة المسيح إنسانا بشرا! وبهذا لم يكن للشاهد أكثر مما للغائب في شأن البحث عن ألوهية المسيح والتحقق منها.. إذ أن الذين شاهدوا المسيح لم يكن يقع لتفكيرهم أنهم يعيشون مع إله، ويتحدثون أو يستمعون إلى إله.. وإنما هم مع إنسان، وإن عظم في الناس أمره، وسما قدره.. فهم والذين لم يروه على سواء، في التحقق من الصفة الجديدة التي كان عليهم أن يروه من خلالها.. إنهم يستعيدون ذكريات، ويتذكرون أحداثا، على حين يطالع غيرهم- ممن غاب عنهم شخص المسيح- تلك الذكريات، وهذه الأحداث، مسطورة في كتب، مصورة في رسائل! وأين الإله إذن في هذا الإنسان «يسوع»؟إن أحدا لم يره إلها، ولم يتعامل معه كإله، وإلّا كانت قد دارت الرءوس وجنّ جنون الناس!فالأمر لا يعدو أن يكون مجرد تخريجات وتأويلات، لذكريات وأحداث، وأخبار، عن تلك الذكريات وهذه الأحداث! فاللّه الذي تجسد في «يسوع» المسيح لم يعلن نفسه للناس الذين ظهر فيهم وولد وعاش، وصلب، وقام من الأموات بينهم! وإنما كان هذا الإعلان بعد أن ترك «اللّه» هذا الجسد، وزايل هذا المكان الذي كان فيه! هذه واحدة! وأخرى، يقف العقل إزاءها متسائلا:لماذا ظهر اللّه في هذا الجسد المحدود؟ في هذا الزمن المحدود؟ في هذا المكان المحدود؟إنه لو كان يريد أن يكشف ذاته للناس لكان غير ذلك أولى به وأجدى!! كان ينبغى مثلا أن يظهر ظهورا متجددا متكررا.. في أجساد كثيرة، وفى أمكنة متعددة، وفى أزمنة متجددة، حتى يستطيع الناس أن يأخذوا جميعا حظهم من هذا الإعلان.. إن كان لهذا الإعلان حكمة، وكان له أثر! ولابد أن يكون له حكمة وأثر، وإلا لما كان هناك داعية له.إن مثل هذه الاعتراضات قد دارت في كثير من الرءوس التي واجهت تلك المقولات التي تقال في المسيح، وفى تجسد اللّه في الجسد الذي اتخذه من عذراء! وقد أجاب عليها الذين آمنوا بهذه المقولات، ورضوا بها واطمأنوا إليها..وإنه لا بأس من أن نعرض هنا نماذج من تلك الاعتراضات، ودفع المعترضين عليها، ثم تعليقنا على هذه الدفوع.اعتراض:- «إن الأنبياء كانوا يقومون بإعلان اللّه للبشر وهدايتهم إليه.. لذلك لم يكن هناك داع لأن يقوم اللّه تعالى بمهمة كان يقوم بها نفر من عبيده! فما تأويل هذا؟».وجواب: «إن الأنبياء لم يعلنوا للبشر ذات اللّه، بل قاموا فقط بتبليغ أقواله لهم.. إذ فضلا عن أنهم مثل غيرهم من الناس، غير معصومين من الخطيئة، الأمر الذي لا يجعلهم أهلا لإعلان ذات اللّه، فهم أيضا محدودون في ذواتهم، والمحدودون لا يستطيعون أن يعلنوا غير المحدود.. فإذا أضفنا إلى ذلك أن غرض التجسّد لم يكن مجرد إعلان ذاته لليشر، بل الظهور بينهم بحالة مدركة لهم، لكى يستطيعوا معرفته والاقتراب منه، والتوافق معه- اتضح لنا أن هذا الاعتراض لا مجال له إطلاقا».. والذي يرد على هذا الاعتراض هو رجل من رجال الدين المسيحي! وعالم من علماء المسيحية.وتعليق: وندع مقولته في عصمة الأنبياء، وأنهم لهذا ليسوا أهلا لإعلان ذات اللّه.. ونسأل ما الغاية من إعلان ذات اللّه؟ وما أثر هذا لإعلان؟ ألا يكفى الإعلان عن آثاره، وأعماله، لتكون عند الناس شاهدا على وجوده، وعلى ماله من صفات الجلال والكمال؟إن الناس يتمثلون ذوات القادة، والزعماء، والعلماء في آثارهم وأعمالهم، دون أن يروهم أو يتصلوا بهم.. ومع هذا يحبّون منهم من يحبون، ويطيعون من يطيعون، وينقادون لمن ينقادون، بقدر ما يقع في نفوسهم مما لهم من آثار وأعمال!..ثم ألا يكون هذا الوجود كله، بما فيه من آيات، وما يشتمل عليه من عجائب وأسرار تقف أمامها العقول مشدوهة، وتنظر إليها الأبصار خاشعة- ألا يكون هذا إعلانا واضحا عن اللّه؟ ثم ألا يكون فيما يجىء به رسل اللّه وأنبياؤه من دعوات تكشف عن هذا الوجود، وتجلّى للأبصار والعقول ما غشّى عليها الجهل والضلال منه- ألا يكون في هذا ما يكشف للناس عن وجود اللّه، وعظمة اللّه، وجلال اللّه، حتى يجىء اللّه نفسه للناس ليقول لهم: ها أنا ذا؟اعتراض آخر.. يقول: إن التوافق مع اللّه لا يتوقف على رؤيته بالعين، بل على إدراك النفس لمحبته، وكماله، وجماله، ولذلك لم يكن هناك داع لأن يتجسد اللّه.. إذ أنه موجود في كل مكان.. وفى أقواله لنا ما يكفى نفوسنا لإدراك كل شيء عنه وبالتالى للتوافق معه! وجواب: «حقا إن التوافق مع اللّه لا يتوقف على رؤية العين، بل على إدراك النفس لمحبته، وكماله، وجماله.. لكن هل تستطيع النفس أن تدرك شيئا عن اللّه من مجرد السمع أو القراءة عنه؟ الجواب: طبعا لا، لأن النفس كما قلنا محدودة، واللّه غير محدود، والمحدود لا يدرك من تلقاء ذاته غير المحدود، لذلك كان من البديهي أنه إذا أراد اللّه أن يجعل ذاته مدركا لنفوسنا- وعمل مثل هذا يتفق مع ذاته وصفاته كل الاتفاق- أن يظهر لنابهيئة محسوسة، نستطيع عن طريقها الاتصال به، وهذه هي الهيئة التي تنازل واتخذها، له المجد!».
|